عَائِدٌ بعد احتِضَار

عَائِدٌ بعد احتِضَار

وقت المغيب كنتُ على مقربةٍ من الأسلاكِ الشائكة…

الجنودُ موزعونَ حولَ مدينةِ حاكمِهِم ، والنواظيرُ الليلةُ منسدلةٌ على صدورِهم وأيدهُم تحكُم قبضَتها على الكلاشِنكُوف

مدرعاتٌ وعرباتٌ غاضبةٌ تملؤ المكان هنا وهناك…

حراسةٌ مشددةٌ تُلقِي القبضَ على أي شيءٍ قد يتسسللُ نحوَ المدينة…

حتى دخان السيجارة لا يمكنهُ العبورَ ، هكذا يبدوا لي وقتَ المغيبِ وأنا أشرُفُ من بعيدٍ على المكانِ الذي أنوي العبورَ إليه…

مكثتُ أفكرُ ملياً مليا في خِطةٍ تُمكِني من التسلل خِلسة دونَ أن يشعروا بِي…

الثامنة مساء اغتصبَ الظلامُ المدينة ، وبدءَ العسكرُ يتجمعونَ حولَ موائدِ الطعامِ وحينها بدأتُ المضيَ من خلفِ أظهرِهِم وهم غافلون…

عبرتُ الأسلاكَ الشائكةَ فتمزقَ قميصِي وبعضَ جسدي…

أسلاك شائكة

تقدمتُ قليلاً فشعرتُ باسياخ ومسامير حادة تلتهمُ قدميَّ بشرههٍ مفرطٍ…

صرختُ بملىء فَمي إثرَ طعنةٍ اخترقتْ قدمَّي فجأة ، فنهضَ جميعُ العسكرِ حتى ارتعدت جوانحِي خوفاً ورُعبا…

أضيئتِ الأنوارُ ، واستيقضتِ المدينةُ من سباتِها وأصواتُ البنادقِ المحمولة على الأكتاف ، فزحفتُ بجسدي الممزق نحو عربةٍ محترقة…اتوارى خلفها حتى يعمَ الهدوءُ من جديد وتنام المدينةُ وساكنوهَا بينَ أحضانِ الظلام…

وبينما أن ألوك صمتَ الوجعِ والأناتِ تذكرتُ أطفالَ مدينتي المحرومين من الغذاءِ والحياة

قررتُ المغامرةَ رَغَم جسدي المنهوش بأنيابِ الحديد ، وملابسي المبللة بدموعِ الجسدِ المحتضر…

وكلما تقدمتُ خطوةً للأمامِ تراجعت للوراء قدمينِ بل أكثر بسببِ التوزيعِ المحكمِ والكَثرةِ العدديةِ للجنودِ التي لا تَنَام…

راوغتُ كثيراً لكنَ الشروق كانَ أسرع زحفاً نحو بيتِ الحاكمِ ونوافذهِ ، وكلما مرَ بي الوقتُ كثيراً أصبحت محاطاً بالجنودِ والخوف…

“ارفعْ يديكَ للأعلى” صوت الجندي الذي مسكَ بي من الخلف واضعاً بندقيته في ظهري ، وأمرني بالركوع على قدميَ ثم صاح بمن حوله من الرفاق أن تعالوا إلى هنا…

صمت وظلام اتشح به والهدوء في المكانِ خيم لبرهة من الوقت ، ثم عقبه ركلٌ بالأقدامِ وضربٌ بسياطٍ صوته وقت التهاوي مخيفٌ كوجعهِ بجسدي النحيل…

عضضتُ شفتاي بقوةِ المتألمِ على جسدهِ وجيلٍ ينتظرُ انفراجَ الهمِ عندَ الشروق…

أشرقتِ الشمسُ وأنا الملطخُ بالدمِ والوجعِ احتسي فنجان قهري وقلةِ حيلتي ، وأنشدُ الفرارَ من قبضةِ الحاكمِ البغيض ، لكن لا جدوى من الأمنيات…

رجالٌ اشداءٌ مفتولوا العضلاتِ قادوني إلى ساحةِ الحُكمِ بِلا محاكمةٍ مسبقةٍ أو محامٍ يترافعُ من أجلي والحياة…

اقرأ التهمة:
هكذا أُمر الشخص الواقف بجواري وسطَ تجمعٍ لفقراءٍ مشدوهينَ من هولِ ما يجري

بدأت أدلةُ الاتهامِ بحقي تتلى ” بعد النظرِ في قضية المدعو م.ج المتهم بمحاولةِ تغييرِ النظامِ ، والعيشِ بحريةٍ وكرامةٍ لجغرافيا تجرمُ عبوديةَ الأشخاصِ واسترقاقِهِم ، ومحاولتهِ تسوية الناسِ بالحقوقِ والحرياتِ كأسنانِ المشطِ الواحد قررنا نحنُ في الديوانِ الملكي تنصيب مشنقةَ الخلاصِ منه ، وليكن عبرةً للخلائقِ أجمعين ، صدرَ بتاريخهِ ويومه “…

مشنقةٌ وشيخٌ عند أذني يهمسُ انطق الشهادتين يا بني ، أنفاسٌ تحتضرُ قبلَ تطويقَ العنقِ بحبالِ ظلمها…

وفجاةً صوتُ الحريةِ انطلقَ من حناجرِ البسطاء التواقينَ للانعتاقِ من العبودية ، وعدتُ للحياةِ بعدَ احتضار…

 

منير الحاج